"قهوة زيادة لو سمحت "
قلتها إجابة لسؤال النادل الصامت عم أريد .. جالسا في مكاني المفضل بمقهاي المفضل منتظرا صديقي المفضل كي يأتي و قد تأخر عن موعده كعادته التي أؤنبه عليها دوما .. ويتعلل بأنه لم يتأخر سوى عشر دقائق (بالكتير) في حين أنه تأخر قرابة نصف الساعة أو أكثر .. لا أحب التأخير عن المواعيد ، خاصة التأخر الزائد .. بالأحرى أكره كل ما يزيد عن الحد .. أكره المبالغة في ارتداء الملابس بحجة التأنق .. المبالغة في وصف شيء ما .. المبالغة في الضحك .. الخ .. ربما كانت القهوة هي الاستثناء الوحيد لذلك .. وهي الشيء الوحيد الذي أفضله زيادة ..
يأتي النادل يضع لي القهوة مع كوب من الماء غالبا لن أشرب منه نقطة .. أبدأ في ارتشاف القهوة و أجول ببصري في المكان بنظرة ملول بعد أن نظرت في ساعتي لأكتشف أنني هنا منذ ربع ساعة ولم يظهر صديقي المغوار بعد ..
مزيج غريب من الوجوه تراه أمامك في المقهى .. شباب – صبية – رجال من كافة المستويات الاجتماعية والمادية .. هناك من يجلس متوترا ينظر في ساعته كل فترة ويدق بقدمه بعصبية على الأرض .. و هناك من انشغل في محاولة احداث اكبر قدر من الصخب باستخدام قطع الدومينو كمطارق لإثبات أنه حي ويستمتع بوقته .. هناك من انهمك في حديث لا تسمعه مع رفيقه .. هناك ذلك العجوز متعضن الوجه الذي تجده في جميع المقاهي ولا هم له سوى امتصاص المعسل وكأنه ترياق الحياة .. هناك الكثير من الوجوه و كثير من الأصوات محصلتها همهمة غامضة يتخللها بين الحين والحين ضحكات عالية من هنا ، و سعال من هناك ، و أصوات قرع الدومينو والطاولة ، وصوت النادل يهتف على زميله بالطلبات من بعيد لإعدادها ....
نظرت لساعتي من جديد ، ثم رفعت عيني في ضيق معيدا إياها لنظرتها الملول في أنحاء المكان ..
"واحد لمون يا برنس وحياتك بس في السريع "
انتقلت بعيني بنظرة روتينية لأتأمل الوافد الجديد .. توقعت أن يكون شابا نظرا لطريقته في الكلام ، ولكنه لم يكن كذلك وهو ما لفت انتباهي اليه بشكل كبير ..
رجلا هو .. امتلأ وجهه بتجاعيد تشي باقتراب الستين منه .. يرتدي ملابس لا تليق بسنه على الإطلاق ، وقد صبغ شعره بالكامل بالأسود .. و إذا أضفت للسابق طريقة جلسته وطريقة تعامله عموما ، فستفهم بالتأكيد الضيق الذي اعتراني عندما شاهدته .. فقد كان مثالا لما أكره من المبالغة .. مبالغة تشرب الليمون و تظن أنها في العشرين ..
وجدته ينهض .. وبدأ يسير نحوي .. لا أظنه جاء ليجلس معي .. من غير المعقول أن يكون قد ترك كل هذا الجمع الغفير كي يأتي ليجلس معي انا بالذات .. هناك احتمال لا بأس به أن يكون متجها للحمام .. أو أن يكون ذاهبا لأي مكان آخر .. و لكن نظرة عينه التي تركزت علي وخطواته الثابتة نحوي جعلتني أدرك أمرا هاما ..
"ايه ياعم قاعد لوحدك وواخدلك جنب كده ليه .. المزة فرقعتك والا ايه "
قالها ضاحكا متخذا كرسيه بجواري .. يبدو أنه ليس متصابيا فحسب بل هو طفيلي كذلك ..
"نعم ؟؟ "
"نعم الله عليك .. انا بس لقيتك قاعد لوحدك وشكلك مفقوع قلت آجي اقعد معاك ندردش شوية و نلعبلنا دورين طاولة والا حاجة .... الطاولة يابني "
وكأن هذا ينقصني !! طاولة أيضا .. ماذا أصنع .. أريد أن أجعله ينصرف ولكن بشياكة قليلا .. ربما كان متصابيا لزجا ولكن لا تنس أنه في عمر والدك ..
"والله يا حاج (ضاغطا أحرف الكلمة الأخيرة) انا بس مستني واحد صاحبي و هو على وصول ان شاء الله "
هو: "يا سيدي على ما ييجي .. ثم ايه حكاية حاج دي .. انا اسمي محسن يا سيدي"
اللعنة ! .. هو مصرّ إذن؟ .. ما العمل .. الشياكة لم تأت بنتيجة ..
"لا ازاي يا (حاج) بس .. حضرتك في عمر والدي وماينفعش أنده لك بإسمك بس .."
هو :" ايوه بس ......................"
"ثم انا مابعرفش العب طاولة !! "
استمر هو في محاولاته للبقاء ، واستمريت بدوري في اثنائه عن ذلك ..و الحقيقة أنني تخليت عن مبدأ الشياكة تماما لأنها لم تؤت ثمارها ،وبدأت في معاملته بجفاف شديد .... ثم بعد فترة ، وبعد أن أتى الليمون الذي طلبه .. ظهر اليأس على ملامحه ، ثم ارتشف رشفة وحيدة من كوبه و نهض وقد ظهر على وجهه حزنا خفيا و مشى مسرعا خارج المقهى ..(سحقا .. من سيدفع ثمن ليمونك الأحمق .. لن أدفع مليما واحدا)
شعرت بشيء من تأنيب الضمير وقتها على ما فعلت .. ربما كان من الأفضل أن أحادثه بشيء أكثر من اللياقة .. ولكن صديقي المنتظر كان قد أتى أخيرا ، فاستكان ذلك الشعور داخلي سريعا لانشغالي بلوم صديقي على تأخره .. وإن لم أترك جليسي السابق يغادر نطاق بصري .. و رأيته قد وقف خارج المقهى معطيا ظهره إياه .. يتأمل شيئا في يده خمنت أنه صورة ما .. ثم نظر لأعلى مطلقا زفرة حارة طويلة .. وهز رأسه يمنة ويسرة في تحسّر واضح و تمتم بشيء ما لم أسمعه .. ثم انصرف سريعا .. لمحت وقتها وكأن ما خمنت أنه صورة قد سقطت من يده أو أنه ألقاها .. لم أكن متأكدا تماما .. ولكني لإسكات ضميري قمت من مكاني وناديت الرجل
"يا حاج .. فيه حاجة وقعت منك"
ظننت أنه لم يسمعني لأنه لم يبد أي رد فعل لما قلت .. ولكنه توقف فجأة واستدار ببطء .. وأدهشني تغير لهجته تماما حتى ظننت أنه شخصا آخر .. و إن كان الآن يبدو أقرب لما هو عليه فعلا ..
"مافيش حاجة وقعت .. أنا اللي رميتها "
ثم توارى عن ناظري سريعا تاركا إياي لدهشتي ..
حكيت لصديقي عم حدث ولم يره .. فأخبرني أن نفس الرجل أتى للمقهى أكثر من مرة و حاول أن يصادق بعض الشباب الموجودين وقتها ، إلا أنهم سرعان ما زجروه ساخرين منه .. بل و أطلقوا عليه لقب الحاج الروش
هممت بقول شيء ما ولكني تذكرت شيئا هاما .. قمت من مكاني واتجهت للمكان الذي وقع فيه ما راهنت أنه صورة .. وقد كانت بالفعل .. صورة باهتة قديمة بالأبيض والأسود تظهر مجموعة من الشباب يقفون صفا واحدا مبتسمين للكاميرا وقد رسم أحدهم بالقلم الأحمر دائرة حول أحد الوجوه ..
"ايه يابني .. بتعمل ايه عندك "
بذهن شارد أجبته "ايوه ايوه جاي اهو "
قلبت الصورة لأجد كتابة على ظهرها ..
قلتها إجابة لسؤال النادل الصامت عم أريد .. جالسا في مكاني المفضل بمقهاي المفضل منتظرا صديقي المفضل كي يأتي و قد تأخر عن موعده كعادته التي أؤنبه عليها دوما .. ويتعلل بأنه لم يتأخر سوى عشر دقائق (بالكتير) في حين أنه تأخر قرابة نصف الساعة أو أكثر .. لا أحب التأخير عن المواعيد ، خاصة التأخر الزائد .. بالأحرى أكره كل ما يزيد عن الحد .. أكره المبالغة في ارتداء الملابس بحجة التأنق .. المبالغة في وصف شيء ما .. المبالغة في الضحك .. الخ .. ربما كانت القهوة هي الاستثناء الوحيد لذلك .. وهي الشيء الوحيد الذي أفضله زيادة ..
يأتي النادل يضع لي القهوة مع كوب من الماء غالبا لن أشرب منه نقطة .. أبدأ في ارتشاف القهوة و أجول ببصري في المكان بنظرة ملول بعد أن نظرت في ساعتي لأكتشف أنني هنا منذ ربع ساعة ولم يظهر صديقي المغوار بعد ..
مزيج غريب من الوجوه تراه أمامك في المقهى .. شباب – صبية – رجال من كافة المستويات الاجتماعية والمادية .. هناك من يجلس متوترا ينظر في ساعته كل فترة ويدق بقدمه بعصبية على الأرض .. و هناك من انشغل في محاولة احداث اكبر قدر من الصخب باستخدام قطع الدومينو كمطارق لإثبات أنه حي ويستمتع بوقته .. هناك من انهمك في حديث لا تسمعه مع رفيقه .. هناك ذلك العجوز متعضن الوجه الذي تجده في جميع المقاهي ولا هم له سوى امتصاص المعسل وكأنه ترياق الحياة .. هناك الكثير من الوجوه و كثير من الأصوات محصلتها همهمة غامضة يتخللها بين الحين والحين ضحكات عالية من هنا ، و سعال من هناك ، و أصوات قرع الدومينو والطاولة ، وصوت النادل يهتف على زميله بالطلبات من بعيد لإعدادها ....
نظرت لساعتي من جديد ، ثم رفعت عيني في ضيق معيدا إياها لنظرتها الملول في أنحاء المكان ..
"واحد لمون يا برنس وحياتك بس في السريع "
انتقلت بعيني بنظرة روتينية لأتأمل الوافد الجديد .. توقعت أن يكون شابا نظرا لطريقته في الكلام ، ولكنه لم يكن كذلك وهو ما لفت انتباهي اليه بشكل كبير ..
رجلا هو .. امتلأ وجهه بتجاعيد تشي باقتراب الستين منه .. يرتدي ملابس لا تليق بسنه على الإطلاق ، وقد صبغ شعره بالكامل بالأسود .. و إذا أضفت للسابق طريقة جلسته وطريقة تعامله عموما ، فستفهم بالتأكيد الضيق الذي اعتراني عندما شاهدته .. فقد كان مثالا لما أكره من المبالغة .. مبالغة تشرب الليمون و تظن أنها في العشرين ..
وجدته ينهض .. وبدأ يسير نحوي .. لا أظنه جاء ليجلس معي .. من غير المعقول أن يكون قد ترك كل هذا الجمع الغفير كي يأتي ليجلس معي انا بالذات .. هناك احتمال لا بأس به أن يكون متجها للحمام .. أو أن يكون ذاهبا لأي مكان آخر .. و لكن نظرة عينه التي تركزت علي وخطواته الثابتة نحوي جعلتني أدرك أمرا هاما ..
"ايه ياعم قاعد لوحدك وواخدلك جنب كده ليه .. المزة فرقعتك والا ايه "
قالها ضاحكا متخذا كرسيه بجواري .. يبدو أنه ليس متصابيا فحسب بل هو طفيلي كذلك ..
"نعم ؟؟ "
"نعم الله عليك .. انا بس لقيتك قاعد لوحدك وشكلك مفقوع قلت آجي اقعد معاك ندردش شوية و نلعبلنا دورين طاولة والا حاجة .... الطاولة يابني "
وكأن هذا ينقصني !! طاولة أيضا .. ماذا أصنع .. أريد أن أجعله ينصرف ولكن بشياكة قليلا .. ربما كان متصابيا لزجا ولكن لا تنس أنه في عمر والدك ..
"والله يا حاج (ضاغطا أحرف الكلمة الأخيرة) انا بس مستني واحد صاحبي و هو على وصول ان شاء الله "
هو: "يا سيدي على ما ييجي .. ثم ايه حكاية حاج دي .. انا اسمي محسن يا سيدي"
اللعنة ! .. هو مصرّ إذن؟ .. ما العمل .. الشياكة لم تأت بنتيجة ..
"لا ازاي يا (حاج) بس .. حضرتك في عمر والدي وماينفعش أنده لك بإسمك بس .."
هو :" ايوه بس ......................"
"ثم انا مابعرفش العب طاولة !! "
استمر هو في محاولاته للبقاء ، واستمريت بدوري في اثنائه عن ذلك ..و الحقيقة أنني تخليت عن مبدأ الشياكة تماما لأنها لم تؤت ثمارها ،وبدأت في معاملته بجفاف شديد .... ثم بعد فترة ، وبعد أن أتى الليمون الذي طلبه .. ظهر اليأس على ملامحه ، ثم ارتشف رشفة وحيدة من كوبه و نهض وقد ظهر على وجهه حزنا خفيا و مشى مسرعا خارج المقهى ..(سحقا .. من سيدفع ثمن ليمونك الأحمق .. لن أدفع مليما واحدا)
شعرت بشيء من تأنيب الضمير وقتها على ما فعلت .. ربما كان من الأفضل أن أحادثه بشيء أكثر من اللياقة .. ولكن صديقي المنتظر كان قد أتى أخيرا ، فاستكان ذلك الشعور داخلي سريعا لانشغالي بلوم صديقي على تأخره .. وإن لم أترك جليسي السابق يغادر نطاق بصري .. و رأيته قد وقف خارج المقهى معطيا ظهره إياه .. يتأمل شيئا في يده خمنت أنه صورة ما .. ثم نظر لأعلى مطلقا زفرة حارة طويلة .. وهز رأسه يمنة ويسرة في تحسّر واضح و تمتم بشيء ما لم أسمعه .. ثم انصرف سريعا .. لمحت وقتها وكأن ما خمنت أنه صورة قد سقطت من يده أو أنه ألقاها .. لم أكن متأكدا تماما .. ولكني لإسكات ضميري قمت من مكاني وناديت الرجل
"يا حاج .. فيه حاجة وقعت منك"
ظننت أنه لم يسمعني لأنه لم يبد أي رد فعل لما قلت .. ولكنه توقف فجأة واستدار ببطء .. وأدهشني تغير لهجته تماما حتى ظننت أنه شخصا آخر .. و إن كان الآن يبدو أقرب لما هو عليه فعلا ..
"مافيش حاجة وقعت .. أنا اللي رميتها "
ثم توارى عن ناظري سريعا تاركا إياي لدهشتي ..
حكيت لصديقي عم حدث ولم يره .. فأخبرني أن نفس الرجل أتى للمقهى أكثر من مرة و حاول أن يصادق بعض الشباب الموجودين وقتها ، إلا أنهم سرعان ما زجروه ساخرين منه .. بل و أطلقوا عليه لقب الحاج الروش
هممت بقول شيء ما ولكني تذكرت شيئا هاما .. قمت من مكاني واتجهت للمكان الذي وقع فيه ما راهنت أنه صورة .. وقد كانت بالفعل .. صورة باهتة قديمة بالأبيض والأسود تظهر مجموعة من الشباب يقفون صفا واحدا مبتسمين للكاميرا وقد رسم أحدهم بالقلم الأحمر دائرة حول أحد الوجوه ..
"ايه يابني .. بتعمل ايه عندك "
بذهن شارد أجبته "ايوه ايوه جاي اهو "
قلبت الصورة لأجد كتابة على ظهرها ..
1965
رحلة الأقصر وأسوان
من اليمين .. فوزي اليماني .. علي المصري (عجوة) .. العبد لله .. السعيد البشبيشي (المخضرم)
للذكرى الخالدة
ثم بخط صغير لا يكاد يرى بالأسفل يشي بأن من كتبه هو نفس الشخص وإن كان هناك بعض الاختلاف النسبي ..رحلة الأقصر وأسوان
من اليمين .. فوزي اليماني .. علي المصري (عجوة) .. العبد لله .. السعيد البشبيشي (المخضرم)
للذكرى الخالدة
كلهم ماتوا
قلبت الصورة مرة أخرى وأخذت أتأملها طويلا .. ثم رمقت الطريق الذي انصرف منه "محسن" وقد دمعت عيناي .. وعدت لأركز نظري على الوجه الشاب الذي يتوسط الدائرة الحمراء ..
وجه محسن
التسميات: قصص قصيرة